منذ سنوات، دخل النظام العسكري الحاكم في الجزائر مرحلة جديدة من عدائه المزمن تجاه المغرب.

لم تعد الحرب تُدار عبر البيانات أو المناورات الدبلوماسية الفارغة، بل تحولت إلى حرب رقمية ممنهجة، تموَّل بسخاء وتُدار ببرودة دم داخل مختبرات سيبرانية، هدفها واحد: تشويه صورة المغرب وضرب تماسكه الداخلي وزعزعة ثقته في مؤسساته.

النظام الجزائري، الذي فشل في بناء نموذج سياسي واقتصادي قابل للحياة، وجد في الفضاء الرقمي ضالته الجديدة لتعويض إخفاقه الواقعي.

فبدل أن يطوّر قدرات بلده في التنمية أو يفتح باب الأمل أمام شبابٍ غاضبٍ ومحبط، اختار أن يوجّه طاقاته إلى صناعة الوهم وترويج الكراهية.

في ظل هذا التحول، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحات مواجهة مفتوحة، يديرها جيش إلكتروني ضخم، يشتغل وفق أجندة محكمة، تمزج بين التضليل، والتشويه، وبثّ الإشاعة، واستهداف الرموز والمؤسسات المغربية.

إفتتاحية. الجزائر والناطق الرسمي بإسم الحقد على الملكية في المغرب

ماكينة الأكاذيب.. صناعة الأعداء بدل صناعة الحلول

بدأت القصة حين أسّس النظام العسكري في الجزائر ما يُعرف بـ”الوحدات السيبرانية”، وهي مجموعات متخصّصة في الحرب النفسية، تعمل على إنشاء آلاف الحسابات الوهمية والصفحات السوداء، ومنها الصفحات، التي تم شراؤها بمتابعيها من بعض “إمّعات” المغرب، الذين يصلّون رُكعا أمام الأورو والذين انضاف إليهم رُكّع الدولار، صفحات تتقمص هويات مغربية مزيفة، لتغذي حملات التشكيك في كل ما هو مغربي: من الملكية إلى الأمن والجيش، ومن الحكومة إلى البرلمان والشارع، ومن المؤسسات إلى القيم المشتركة.

هذه الصفحات لا تتحرك عشوائيًا، بل وفق خريطة دقيقة تُحدّد مواسم الهجوم، تزامنًا مع كل حدث وطني أو خطاب ملكي أو خطوة إصلاحية داخل المغرب.

فحين يحقق المغرب نجاحًا دبلوماسيًا، كما حدث في ملف الصحراء أو في تعزيز شراكاته الإفريقية والدولية، يخرج هذا الجيش الرقمي بتعليمات موجهة لتقزيم المكاسب، وتحويل النصر إلى مادة سخرية، بل وتزييف الخطاب العام عبر محتوى يقدَّم بلهجة مغربية لتضليل المتابع.

من الشواهد الميدانية على هذا النهج، ظهرت ما عُرف بـتسريبات “جبروت”، حملة تنظيمية رقمية تضخّ محتوى مسيّسًا ومفبركًا، تضمنت نشر ملفات وصورًا مفبركة وبيانات مزعومة بهدف تشويه مؤسسات مغربية وإلهاء الرأي العام.

تسريبات “جبروت” نموذجًا واضحًا لعملٍ منظّم يجمع بين اختراقات رقمية وحملات تضليلية مُنسّقة تهدف إلى تحويل كل إنجاز مغربي إلى مادة أثيرة للنقد والمزايدة.

تمويل سخي.. وشبكة دولية من التضليل

كل شيء في هذه الحرب محسوب بدقة، بما في ذلك التمويل. فالاستخبارات الجزائرية رصدت ميزانيات ضخمة لإنشاء محتوى مضاد للمغرب، يتوزع بين صفحات ممولة على فايسبوك وتويتر ويوتوب، ومنصات تعمل من الخارج لتجنّب المتابعة القانونية.

وقد تم تسخير جيوش من “المؤثرين المأجورين” في أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وحتى في المغرب وضمن مغاربة يتسوّلون “العطايا” لعيش الرفاهية على حساب المصالح العليا للمغاربة، ويندسون في المجموعات ويتسلّلون إلى المنصات ويتبوّأون فيها مواقع معتبرة بحكم الأرصدة الطائلة التي تُصرف لهم وعليهم، لترديد الخطاب نفسه: مهاجمة المغرب وتشويه صورته في ملفات الهجرة وحقوق الإنسان والرياضة والثقافة والفن.

هذا التمويل الضخم لا يعكس فقط رغبة في السيطرة على الخطاب الرقمي، بل يكشف هوسًا مرضيًا بكل ما هو مغربي، إلى حدّ أن أي نجاح اقتصادي أو تنموي في المغرب يُترجم في الجزائر إلى حالة طوارئ إعلامية.

فكل مشروع تنموي أو إنجاز دولي مغربي يقابله النظام العسكري بإطلاق حملات تضليل ممنهجة، تشكّك في الأرقام وتهاجم الرموز، وتحاول خلق صورة بديلة عن واقع يغيظه ويعريه.

“جيل Z” في مرمى نظر وحجر العسكر

لم يكتفِ النظام العسكري الحاكم في الجزائر بإدارة حملاته العدائية ضد المغرب من وراء الحدود، بل سعى أيضًا إلى التشويش على الدينامية الشبابية المغربية، التي عبّرت مؤخرًا عن مواقفها في الفضاء العمومي، من خلال ظهور حركة “GenZ212”.

فمع كل حراك رقمي أو نقاش اجتماعي مغربي، تُطلق آلاف الحسابات الموجَّهة لتضخيم الخلافات، ونشر خطاب التبخيس، ودفع الشباب نحو فقدان الثقة في المؤسسات، وصولا إلى حملات الطعن في المقدسات…

لقد حاولت هذه الآلة الافتراضية تحويل النقاش المغربي الداخلي على منصات “GenZ212” إلى فوضى رقمية مفتعلة، عبر زرع روايات مضللة، واستعمال هويات مزيفة تتحدث بلهجة مغربية لإيهام المتابعين بأن مصدر التشكيك “من الداخل”.

لكن وعي الشباب المغربي، وتفكيكه السريع لخطاب التحريض الخارجي، أفشل كثيرًا من تلك المحاولات، التي بدت في النهاية أقرب إلى عمليات نفسية مرتجلة هدفها زرع البلبلة أكثر من إحداث التغيير.

فشل مزمن خلف ستار الافتراضي

ذباب قادم من الشرق يحرض على إفشال تنظيم كأس أفريقيا في المغرب
ذباب قادم من الشرق يحرض على إفشال تنظيم كأس أفريقيا في المغرب

النظام العسكري الجزائري يهرب من واقعه الداخلي البائس إلى افتراضٍ مريح: يهاجم المغرب كي يلهي شعبه عن الأزمات البنيوية التي تخنقه، من اقتصادٍ راكدٍ إلى انسداد سياسي إلى عزلة إقليمية خانقة.

وفي كل مرة يتوهّم أنه قادر على تزييف الوعي المغاربي، يجد أن الواقع يعانده، وأن صورة المغرب تتقوّى دوليًا بينما صورته تتآكل داخليًا وخارجيًا.

فالاستثمار في الكراهية لا يبني دولة، وتجييش الذباب الإلكتروني لا يصنع شرعية. والمفارقة أن هذا النظام الذي يوزّع خطابات “الأخوة” في المحافل الدولية، هو ذاته الذي يموّل جيشًا من محترفي الكذب الإلكتروني ضد بلد جار تجمعه به أواصر التاريخ والجغرافيا والدين.

المغرب… الثقة مقابل الزيف

في المقابل، لا يردّ المغرب على هذه الحملات بالأسلوب نفسه، بل يواصل بناء مؤسساته وتعزيز جبهته الداخلية وتحصين صورته الواقعية بإنجازات ملموسة.

وبينما ينشغل خصومه بتزوير الصورة في الافتراضي، ينشغل هو بصناعة الواقع.

هذه المفارقة بالذات هي ما يجعل النظام الجزائري يغلي في صمت، لأن كل مجهوداته الدعائية لا تنجح في تغيير حقيقة واحدة: أن المغرب يتقدّم، بينما خصومه يغرقون في عُقدهم القديمة.

الدولة الافتراضية في مواجهة الدولة الواقعية

لقد بنى النظام العسكري الحاكم في الجزائر لنفسه دولة افتراضية تُحارب في الفضاء الرقمي، بينما يشيخ واقعها على الأرض ويتآكل من الداخل.

إنها دولة تُنفق الملايير على “هاشتاغ” و”منشور”، لكنها تعجز عن إنقاذ مواطنيها من الطوابير الطويلة على الحليب والزيت والدواء.

المقابل، يقف المغرب كدولة واقعية، متماسكة، تشتغل بصمت على تنمية أقاليمها، وتراكم الإنجازات الملموسة في الاقتصاد، والدبلوماسية، والتنمية البشرية.

إنها مواجهة بين وهمٍ رقميٍّ صاخب وواقعٍ وطنيٍّ صلب. وفي نهاية المطاف، لا تنتصر الدعاية على الحقيقة، ولا يصمد الافتراضي أمام الواقعي.

فالدولة التي تبني صورتها على الأكاذيب تنهار أمام أول اختبار للحقائق، أما الدولة التي تستند إلى الثقة والمشروعية والإنجاز، فإنها تزداد قوة كلما اشتدّت حولها العواصف…

*أحمد عبد ربه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *