نافذة على الافتراضي
بين الواقع والافتراضي مسافة، لابد للعقل أن يستحضرها، فللعلم أن بعض الناس، جعلوا من الافتراضي عالمهم، فلا يغادرونه إلا من أجل الحاجات التي لا بديل لديهم عن الواقعي من أجل إنجازها أو القيام بها.
منذ زمن غير قصير، انغمس الكثير من الشباب في عالم افتراضي من القتل والانتقام والتعايش مع كائنات افتراضية تتشكل من حلفاء وأعداء، ويحصل أن تقع بينهم حروب ومعارك لا علم لنا بها، وكأنها حياة حقيقية تجري في موازاة الواقع.
ضمن هذا الافتراضي كذلك، تُعقَد صداقات وتُبرَم زيجات وتُبنى علاقات تكاد لا تبرح الشاشات، فبقيت حبيسة الافتراضي، أو تحوّلت إلى الواقع، فنجحت وفشلت.
كما امتهن العديدون، ضمن هذا الافتراضي، القمار بالعملة الافتراضية (الرقمية)، يربحون أموالا كثيرة ويخسرون أموالا كثيرة، لكن في نفس الآن، امتهن العديدون نساء ورجالا “مهن” النصاب والقاتل وبائع المخدرات، وكل المهن المرتبطة بالإجرام وغير الإجرام، في فضاء بلا رقيب ولا حدود.
لذلك، نلاحظ أن هؤلاء، حين يعودون إلى الواقع، يصطدمون بصعوبة التأقلم مع متطلباته، فيصابون بالخيبة في أعلى درجاتها، وتكون النتيجة انتحارا افتراضيا، بل واقعيا، لأن الانتحار فعل لا يمكن أن يكون إلا واقعيا.
فالواقع هو غير الافتراضي، الواقع يقتضي منك اكتساب معرفته بالعلم وبالفلسفة وبالاجتماع وبالأنثروبولوجيا…، وبالسياسة، أو على الأقل بالكياسة. بينما الافتراضي يقتضي منك فقط استعمال ذكائك ومعلوماتك مهما كانت محدوديتها، حيث تحكمك لوغاريتمات التطبيقات الموضوعة من طرف “الآخرين” من “أجلك”.
وتكون النتيجة بالتأكيد كارثية حين يسقط الفرد أو الفئة أو الجيل بين مخالب المتصيدين لكل حاجة مالية أو عقائدية أو سياسية أو جرمية…
ونغلق النافذة بالدعوة إلى إعادة النظر في المنظومة التربوية (التعليمية والقيمية)، وإلى يقظة معلوماتية أكثر دقة وفاعلية، من خلال حوار مفتوح متعدد الوسائط.
نافذة على السياسة
تبلور العمل السياسي ببلدنا، عبر قرون طبعا، وانطبع بداية القرن العشرين بولوج الحداثة حياتنا، مجبرين، فكان أن مورست السياسة بشكل مشوه، إلا على مستويات عليا، كما في ميادين أخرى من مجتمعنا.
بعد نهاية مرحلة الحماية، وللتذكير فقط، فالحماية ليست هي الاستعمار، لا من حيث الشكل ولا من حيث الأثر، لذلك لابدّ من إعادة قراءة علاقة الدول والشعوب مع “دولة الحماية” و”دولة الاستعمار”، واستبيان أثرها خلال مدة الحماية أو الاستعمار.
بعد الحماية أو الاستعمار، تبلورت نخب سياسية، أقل ما يمكن القول عنها إنها، في غالبيتها، بتكوين معرفي لا يتجاوز مستوى محو الأمية إلا قليلا؟، بتأطير يطغى عليه الفقهي.
ولذلك ليس غريبا أن تاريخ الحركة الوطنية الاستقلالية، كان أغلب زعمائها فقهاء أو ذوي تكوين حديث محدود، والاستثناء لا يعتد به.
واستمر الحال، حتى حدود منتصف سبعينيات القرن الماضي، لتظهر نخبة ذات تكوين معرفي حديث، حاولت بلورة رؤى مختلفة، مستوحية زادها من الفكر الليبرالي، وخاصة منه الفكر الاشتراكي، فكانت أن تعرضت هذه العملية إلى ردة فعل اجتماعية وسياسية عنيفة، قادها جزء من زعماء الحركات الاستقلالية من منظور تقليداني، مغرق في الظلامية، باستدعاء ظلاميي الشرق من سوريا ومصر والأردن، وتم تخريب منظومة التعليم أولا، وبعد ذلك تخريب المنظومة القيمية التي كان يعيشها المغاربة.
وكان أن تم في نفس النسق بذلك تخريب مؤسسات الوساطة السياسية والنقابية والاجتماعية، بقيمها، فغادرها من أصابهم اليأس من التغيير، واستولت عليها جحافل الوصولية الجائعة إلى الاغتناء، والأصولية المغرقة في الرجعية والظلامية، وتجمعهما معا عقيدة الافتراس، بشعارات شعبوية تغترف من مفاهيم ومقولات يسارية ويمينية، أطرت الجماهير المفترضة، حين كان لهذا التقسيم، سابقا محتوى معرفي ومعنى.
ونغلق نافذة السياسة على ضرورة هيكلة الحقل السياسي، بإتاحة الشروط الضرورية لإنتاج سيرورة تبلور طبيعي لمؤسسات الوساطة والتمثيلية السياسية، بعيدا عن الوصوليات والأصوليات، بالقانون وربط المسؤولية بالمحاسبة الصارمة، وبمبدأ عدم استغلال الرمزيات الواقعية والمتخيلة.
نافذة على الاقتصاد
في سياق عولمة شاملة، وفي سياق قيمي تسليعي واستهلاكي، وسباق محموم بين التجارب المجتمعية، لإثبات الذات، والسيطرة على الجزء الأكبر من خيرات العالم، تتسابق القوى الكبرى العالمية، على الأسواق والسلع والمواد الأولية.
وفي شح كبير على مستوى إنتاج المعرفة الاقتصادية، وقلة الأبحاث والدراسات الماكرو-اقتصادية، وسيادة ادعاء المعرفة الأكاديمية في موضوع علم الاقتصاد، والموسوم، غالبا بالاستعمال السياسي، بعيدا عن العلم، يجد المواطن- المتتبع نفسه وسط جلبة وضجيج تضليلي من هذه الجهة أو تلك، مما يجعله ضحية اختلاط المفاهيم، وضبابية الفهم.
وقد ساهم في كل هذا، ما تتيحه وسائط التواصل الاجتماعي، من معلومات خاطئة، وحقائق مغلوطة، وتحليلات مضللة، ونظريات تجاوزها الزمن المعرفي للاقتصاد في مراحله الجديدة، لكنها مازالت تستعمل كمسلمات في فهم ديناميكيات مختلفة تماما عن شروط إنتاج هذه النظريات.
ثم نغلق نافذة الاقتصاد، بالدعوة لتعميم المعرفة والوعي الاقتصادي لدى المواطن-المتتبع، بمتخصصين أكفاء، ومعترف لهم أكاديميا بالاختصاص والتخصص، بعيدا عن الانتماءات السياسية أو الأيديولوجية، وتطوير البحوث الجامعية والبحث العلمي بما يخدم الاقتصاد الوطني.
هنا تطرح كيفية الوصول إلى ذاك المواطن-المتتبع في تنوعه: الإعلام وهو ما سوف يكون موضوع نافذتنا للمقالة القادمة…
أحمد المرادي
