محمد الجلايدي

 

-ما الجديد لديك (آ الشيبة العاصية) أراك على غير حالك؟!
قلت ذلك موجها الكلام ل”بّا احمد”، حين لاحظتُ أن يده تضرب بالعكاز على الأرض بحركات متلاحقة ،وهو في حالة شرود.
-الزلط.. هل تعرف الزلط يا ابن المدارس؟
قالها وهو يرفع بصره إلى السماء ويقلب شفتيه، وأنا أحاول أن أفهم. قال “سي ادريس” موضحا وهو يضحك:
-لا أنا ولا “الشيبة العاصية” نمتلك سنتيما ولم ندخن بعد هذا الصباح. كنا ننتظرك، وقد تأخرت!
قلت لـ”سي ادريس”، مازحا:
-وهل ولدتُكما ونسيتكما؟ ثم “كنّا ننتظرك وقد تأخرت”.. هل كنتُ على موعد معكما؟
قال “بّا أحمد”، حاسما الأخذ والرد في الكلام:
-نريد أن ندخن حالا وإلا…
ابتعدتُ عنه قليلا، وأنا أسأل لأستفزه:
-وإلا ماذا؟
رفع عكازه في وجهي وأصدر تهديده المعهود:
-سأكسر وجه أمك، وبدل أن تذهب إلى عملك ستحملك سيارة الإسعاف!
قلت لـ”بّا أحمد” كي أشاكسة:
-لدي شرط.
قال:
-وما شرطك؟!
قلت:
-أن تخبرني كيف حال خدوج آ “الشيبة العاصية”.
قال بنزق:
-من هي خدوج؟! أنا لا أعرف امرأة بهذا الاسم!
-المَدام، يا إبليس.
قلب شفتيه وأردف:
-قل، كيف حال أختك؟
-وهل صارت زوجتك أختك؟!
قال برنة تأكيد:
-نعم، صارت أختي ومنذ زمن بعيد
-أنا لا أفهم كيف تصير الزوجة أختا؟!
-وهل مثلك يفهم في هذه الأمور؟
-وهل أنا مثلك ، ناقص عقل ودين؟
-دوختك الكتب يا ابن المدارس..
-وهل آخذ الحكمة من فم معتوه؟
-اسمع يا ولدي..
-نعم.
-ثلاثة عقود من الزواج جعلت اللحم يتآخى..
-تريد العودة إلى الكلام عن قطعة الثلج في جبل ثلجي؟
-خيال الكتب ليس هو الواقع!
-نعم، لأن واقعك أنت واقع متمنع عن الكتب.
-لا متمنع ولا هم يحزنون. الناس لا تتكلم
-مُنَظّر وقديس يستبطن زنديقًا؟
-يطول ويعجبك!
ثم أضاف، بلهجة آمرة:
-هات السجائر، أيها الفيلسوف الذي يَحارُ في الحصول على خبزة!
ضحكتُ وأنا أخرج علبة السجائر وأمد لـ”سي ادريس” واحدة و”بّا أحمد” واحدة.. وبعد أن أشعلتُ لي ولهما، قلت:
-والآن، حدثنا عن “الزلط “، الذي لا يُدَرّس في المدارس آ “الشيبة العاصية”.
وهو يمتص دخان سيجارته الأولى بلذة، شرع يحكي:
“الزلط -آ وَلْدي- كان مريضا خلال هذا الأسبوع.. اختفى عنّا، أنا و”سي ادريس” وكدنا ننساه، لكن أحدهم وقف بسيارة طولها أربعة أمتار من آخر طراز، ولما نزل منها فاحت منه رائحة العطر على بعد أحد عشر مترا، ولاحقنا عطره، فتذكرتُ حالي وأحوال أمثالي وحضرني صديقنا “الزلط”!
بعد ذلك،اقترحت على “سي ادريس” أن نذهب لزيارة هذا الصديق الذي تربطنا به علاقة قديمة وحميمة. وهذا “المتعوس” وافقني! ويا ليته لم يوافق. ذهبنا -آ وَلْدي- إلى منزل “الزلط” ،فوجدنا المسكين يفترش الرمل ويتوسد حجرة ولا يلبس ثيابا. كان كما ولدته أمه -الله لا يرحم فيها عظم- دخلنا، ثم جلسنا بالقرب منه، نسأله عما حَلَّ به. فأجابنا بأنه مريض ولم يزره أحد ولم ينتبه إليه أحد، ثم شرع يبكي.. وتعرف -آوَلْدي- أن قلبي رحيم وسرعان ما أتأثر. قلتُ لهذا “المتعوس” -هيا بِنَا نشتر للرجل ما يأكل ونحضر له ما يلبس. فوافقني أيضا على ذلك! ويا ليته لم يوافق. وبعد أن أحضرنا له الخبز والماء والموز والإجاص والعنب وجِلْبابا من الصوف ولحافا ووسادة.. شرع في البكاء إلى حَدِّ النحيب، ورفع كفيه إلى السماء ودعا لنا..
كان “بّا احمد” يحكي وأنا أضحك حتى أدمعت عيناي.. وعندما سكت، أمسكه “سي ادريس” من ذراعه وهو يقول بلهجة آمرة ويضحك:
-أكمل لنا دعاء “الزلط”.
قال “بّا احمد” وهو يضحك، مستعرضا نهاية الحكي، كما طلب منه “سي ادريس”:
-رفع “الزلط” كفيه إلى السماء وقال: هذان الرجلان جاءا لزيارتي وأنا في هذه المِحنة ولم يبخلا علي، والله لن أتخلى عنهما طوال حياتي وبعد مماتي، خاصة و هما فقيران! أما أولئك الذين يسكنون القصور والفيلات، والله لن أقرب واحدا منهم ولا من أبنائهم ولا أحفادهم وأحفاد أحفادهم، ما دمت حيّا، وحتى بعد مماتي، إلى يوم يبعثون…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *