عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 98

تَوقّفْ يا زمنُ ولو للحظات!

 

كانا يتهيّآن للنوم حينما سمعا، أخيراً، خشخشة المفاتيح في الباب. استنفارٌ جميل يحلّ بالمكان ليلةَ مَقدَمي لزيارتهم. يهرع الصّغيران إلى الباب، وإلياس يلهج بالكلمة الوحيدة المفهومة من لثغته الجميلة: بابَا!
مهدي، بين خجل وفرحة، لا يعرف ما يصنع. علبة الياغورت المفضّلة لديه بين يديْه؛ يتحرّك، في الأخير، صوب المطبخ ليُحضر ملعقة، مُتعثرا في خطواته الصّغيرة النائمة.
-اثنتين؛ هات واحدة لأخيك..

هل ثمّة شاعرٌ بينكم، فرسانَ الضّاد، المُفوَّهين منكم والمُزيَّفين، يستطيع تطويع الكلِمِ واقتناص الألفاظ والصور المُناسِبة من جذع هذه اللغة، بكلّ ما ضمّت من جميل الألفاظ والتراكيب، لوصف اللحظة! أنا؟ يكفيني القولُ: أمضيتُ أوقاتاً سعيدة، تماماً كما اشتهيتُ أن تنتهيَ أجملُ ليلة أعيشها كلّ أسبوعَين، عن يميني عصفوران وعن يساري وفي حضن القلب جميلةُ العصفورات.

في الصّباح المُوالي حظيَ الصّغيران بزيارة من نوع خاصّ؛ رضوان حلّ ببيتنا، رفقة والدته. انقلب هدوء الفناء الصّغير للبيت ضجيجاً جميلا على وقع صيحاتهم والضّحكات، وهُم يذرعون الممرّ الضّيق جيئةً وذهابا. أتحوّل إلى مُصور هاوٍ وأنا أطارد لحظات شغبَهم الطفوليّ. ستكون هذه الصور، لاحقاً، زادي المُؤنسَ في ليالي عاصمة الاقتصاد الباردة من دفء عصفوريّ الصّغيرَين والعصفورة الأكبر والأروع.. على أنغام الشّغب البريء انزاح همّ جثمَ بثقله على القلب والنفس طَوال أسبوعين كاملين..

كان في قرارة النفس مكانُ دائمٌ لحُزنٍ يسكُن ما بين الضّلوعَ منذ زيارة غير مرغوبة لزوار ثقيلي الظلّ اعتقلوا رئيسَ العمل، صاحبَ القلم؛ فما يبقى غيرُ الكرَب والهمّ؟!
لم يكن بعض الغمّ المُستبدّ بالجسد والعقل على امتداد الأسبوعين ينزاح إلا خلال السّاعات التي أمضيها بين عصافيري هناك، في مراكش. ما إن يحُلَّ الليل وينام الصّغيران -غالبا بين ذراعيّ- حتى أشرع في خنق تنهّداتٍ في الأعماق، أسفاً على المصير الذي آلت إليه الصحيفة وقد ارتأت جهاتٌ ما أن تغتال قلم مُديرها وهي تزُجّ بصاحب “شوفْ تشوفْ” في الغياهب؛ في مسرحية مُضحكة/ مُبكية في بلد لا داعي للاستغراب كثيرا وأنت في جُغرافياه؛ أمّا التاريخ فيحاول البعض، عبثاً، تكسير أجنحةِ مَن يرغبون أو يُفكّرون حتى في صناعته. عبثاً حاولوا/ يحاولون منع الكلمات من التحليق بحثاً عن الحقيقة، بحثاً عن الحُرّية..

بعد غذاء عائليّ باذخ، ركبت سيارة أجرة للقاء أحدهم. يعتذر عن اللقاء وأنا على بُعد خطوات من المكان الذي حدّدناه آنفاً. طلبتُ من السّائق تغييرَ الاتّجاه؛ نحو وسط المدينة. تهرّبَ ذلك الشّخص، باعتذاره عن لقائي؛ من التزام كان سيجد نفسه طرفاً فيه. كنتُ قد “اشتغلتُ” معه، موازاة مع عملي في الصحيفة، في موقع إلكتروني محلي؛ لكنْ يبدو أنه استطاب، كما جْحا الدّار ذاك، تشتغيلي “فابورْ”. وحين عرف أنّني سأطلب منه مقابلا لجهدي ووقتي في هذا اللقاء، تنصّلَ في آخر لحظة.. مسكينٌ أنت يا وطني باستمرارِ وجود أصحاب مثل هذه العقليات، الذين لا يحلو لهم عرقُ الآخرين إلا إذا كان بدون ثمن!

وسط أدخنة السجائر وأحاديثَ عن الصّحافة والاعتقالات وجديد الأخبار، أحتسي كأس شاي مع صديقين في أحد فنادق “بُولوقاتْ” غير المُصنَّفة، قبل أن أغادر محيط السّاحة.
يعبُر التاكسي حدائقَ أكدالَ، وفي الذاكرة توقظ المناظرُ جميلَ اللحظات. أقتعد كرسيّاً وسط أولاد الحُومة وأنتشي برشفة من كوب قهوة ساخنة أحضرَها أحدُهُم للتو ترحيباً بمقدَمي. تزوّدْ، قلتُ لي، بأكبر قدْر من اللحظات الجميلة هنا، رفقة هؤلاء الجميلين الذين باعدتْ بينك وبينهم المسافات.

في المقهى، لحظات بعد ذلك، كان الجميع ينتظرون، أمام أوراق اللعب، بداية مباراة الوداد البيضاوي ضدّ فريق نيجيريّ. ورغم أنّ عشقَ الكرة قد ذهبَ، منذ أزل، في اتّجاه المقاطعة الكاتلانية، البعيدة هناك في قلب الجارة الشّمالية، فإنني أجد في نفسي مُتسَعاً من الحماسَ لكي أتابع مُباريات من هذا النوع. حين يتعلق الأمرُ بمباراة يُرفَع فيها العلم ويُعزَف النشيد يتوحّد الجميع مهما تفرّقت مذاهبُهم الرّياضية أشتاتاً، في اتّجاه أندية القارّة الشّمالية في الغالب. كتلةً واحدة يصيرون أمام الشّاشات في جميع الأماكن؛ جانباً تُطرَح جميع الانتماءات اللاقوميّة.

ينصرم الوقتُ سريعاً، رغم مُحاوَلاتي استغلاله إلى أقصى مدى. أغادر المقهى لألتحق بعصافيري؛ وفي القلب غصّةٌ ساكنة: لم تعُد أمامي غيرُ سويعات؛ أتأبّط بعدَها حقيبتي والخيبات وأغادر، في ساعات الصّباح الأولى، بحثاً عن لقمةِ عيش يُحيلها ألمُ الفراق مُرّة مثلَ حنظل..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *