عبد الرزاق بوتمزار
ح. 64
حوار مع صَديقي “الثائر”
بتوالي الأيام، بدأنا نستوعب بعضَ الأمور والتفاصيل والأسرار عن المُسابَقة الأدبية التي دعتنا جامعة ناصر إلى المُشارَكة فيها. شخصيا، لم أكنْ، في البداية، أعُدّ نفسي غيرَ مهووس بائس بالكلمة، أصوغ بها بعضَ القصص والحكايا، ساقتني أقداري الحمقاءُ ورغبتي في التألق والتميّز إلى المشاركة في هذه المغامَرة، التي كانت محفوفةً بمخاطرَ لم تكنْ تخطر على بالي المسكين. لكنْ بتوالي الأيّام، ظهرتْ أمورٌ لم تكنْ في الحسبان غيّرتْ كثيراً من توهّماتي.
كثيرين كان المُشارِكون الليبيون في تلك الدّورة من المُسابَقة؛ طلبة بأعداد كبيرة في جميع المَحاور. كانت بينهم، أيضاً، طالبات. صحيحٌ أنهنّ قليلات، مُقارَنة بزملائهنّ الذكور، إلا أنهنّ كنّ فتيات ذكياتٍ ومُنفتحات إلى حدود لم أكنْ أتصورها. كانت الفكرة التي كونّاها عن الليبيات أنهنّ، في غالبهنّ، “مْعقّداتْ” ولا يُخالطن الجنس الآخر. لم نكن نعرف حتى كيف تكوّنتْ لدينا هذه الأحكامُ عن جنس الجماهيرية اللطيف ولا كيف ترسّختْ عنهنّ هذه الصّورة في أذهاننا.
غيّرت رحلتنا إلى جماهيرية القذافي، المحروسة، الكثيرَ من أفكارنا وتصوراتنا. لم يُساورْنا، في يوم من الأيام، شكّ بخصوص السرّ في العدد الكبير من الليبيين المُشارِكين في المُسابَقة. كنّا نظنّ ذلك أمراً طبيعيا، بحكم أن جامعتهم “النّاصرية” هي مُنظّمة المسابَقة؛ لكنّ بعضَ مُجرَيات الأحداث ستُظهر لنا، بالملموس، أنّ هناك هدفاً آخرَ (وربّما أهدافاً) من وراء وجود العدد الكبير لأبناء العقيد بيننا.
ذاتَ يوم، ونحن نستعدّ للخروج في رحلة إلى منطقة -أو مدينة-“لبدة”، في زيارة نظّمتها لنا الجامعة على هامش المُسابَقة الطلابية، كنتُ أنتظر عند مدخل الفندق، وأنا أتأمّل بُرج الفاتح، المقابل لواجهة النّزل، عندما دنَا منّي أحدُ الطلبة الليبيين المُشاركين معنا في المُسابَقة. كنتُ أراه بيننا في مختلف الأنشطة المُوازية وفي تجمّعاتنا قرب مسبح الفندق، حيث كنّا نتوزّع مساءً مجموعات، نتبادل الحديث؛ وإنْ لم أكن أعرف في أيّ محور كان مُشارِكاً، بحكم أنّ المُسابَقة كانت تضُمّ محاورَ عديدة.
بطريقة عجيبة وسلِسة، أدار “الطالب” حديثنا في اتّجاه آخرَ. تحدّثَ عن السّياسة والسّياسيين بصفة عامّة، قبل أن ينتقل إلى الحديث عن نظام الجماهيرية، بما فيه من لِجنٍ شعبية وثورية ولستُ أدري أيَّ مُسمَّيات أخرى. بدا لي حديثه عادياً ويدخل في إطار أيّ نقاش يمكن أن يجمع بين شخصين يلتقيان في مُناسَبة مثل تلك. لكنْ، عندما بدأ يتحدّث عن نوع من “الإعجاب بشخصي الهادئ وميلي إلى الانعزال وعدم مُجاراة الآخرين في أحاديثهم الجانبية وثرثراتهم الفارغة”؛ وعن أنهم “لاحظوا ميلي إلى التأمّل والتدبّر والجدّية طيلة الأيام السّابقة”.. عند ذاك، بدأتُ أقول لي إنّ وراء حديث هذا الشّخص معي أهدافاً ثانيةً عدا مُجرّد الرّغبة في تبادُل الأفكار والآراء حول لعبة السّياسة..
استحضرتُ قاعدةَ “حُسن التخلص” وحاولتُ العملَ بها مع هذا “الطالب” الغريب، الذي يبدو أنه كانت لديه مَهمّة أخرى بين جُموعنا بعيدة عن مُجرَّد التنافس في أحد محاور المُسابَقة والتطلع إلى الفوز بإحدى جوائزها..
كان النقاش الذي جمعني به مناسَبة أخرى لأنْ أؤنّب نفسي على إصراري على التشبّث بأحد أكبر عيوبي: الاستماعِ إلى أيّ كان وإعطائه الفرصةَ للحديث وعدم القدرة على التجرّؤ -في الوقت المُناسب- على القول للشخص الذي لا يُعجبني كلامه: “رجاءً، توقفْ؛ إنّ حديثك لا يعنيني ولا يعني لي شيئاً الاستمرارُ في تعذيب نفسي ومجاراتك في حديثك السّخيف والفارغ من المعنى!”..
دفع خجلي المرَضي مُحدّثي إلى استغلال الفرصة والذهاب أبعدَ كثيراً مما كنتُ أتصور في عرْض فلسفته السّياسية أمامي. ولا أدري لماذا أحسستُ، في لحظة من اللحظات، بأنّ الشّخص الذي كان يُحدّثني ليس نفسَه الذي أرى أمامي. كان يتكلم بحماس منقطع النظير، مسكوناً بإيمان عميق بكلّ كلمة ممّا كان يقول. لو كان يُمثل عليّ فقط دوراً ليس دورَه لكنتُ فطنتُ إلى ذلك في الحال؛ لديّ هذه القدرة على تمييز الأشخاص الذين يقولون وهُم مؤمنون بما يقولون ومُقتنعون به وبين مَن يُردّدون فقط كلاماً فرضته عليهم ظروفٌ ما أو يدخل، ببساطة، ضمن وظيفتهم.
ورغم أنّي وضعتُ، دوماً، مسافةً معقولة بيني وبين السّياسة والخوض في أحاديثها، فقد استطاع أن يجعلني أخوض معه بجدّية في كلام تؤثث السّياسة جميعَ فقراته ولحظاته. كانت جُمَله دقيقة وواضحةً وتعبيراته مُبسَّطة وهادفة. وإذ كانتْ لديّ أحكام مُسبَقة حول كونِ إخواننا شعباً رُفع عنه القلم منذ تولي العقيد أمْرَه، فقد استطاع مُحدّثي أن يشدّ انتباهي، بحُسن حديثه وبطريقته الواضحة في عرض أفكاره والدّفاع عن معتقداته السياسية.
تذكّرت، وأنا في خضمّ حديثي مع محمد (وكان هذا اسمَه، ما لم يكنْ لديه اسم أو أسماءُ أخرى) موقفاً آخرَ كان قد جمع بيني وبين رئيس المكتب الجهوي لإحدى الجرائد الحزبية منذ سنوات.
كنتُ قد تعرّفتُ عليه سنتين قبل ذلك، عندما تأبّطتُ حفنةَ أوراقٍ وذهبتُ لزيارته على أمل نشر بعضِ كتاباتي في مُلحَق ثقافي يُعنى بإبداعات الأدباء الشّباب في الجريدة. صادفتْ زيارتي له قربَ موعد تنظيم تجمّع حزبي بمناسبة انتخابات 1997 البرلمانية. وبين أحاديثَ عن الإبداع والثقافة حاولتُ، ما أمكنني، أن أحافظ عليها موصولةً بعالم الأدب والكتابة، كان هو لا يَني يجُرّني نحو عوالم السّياسة، المُستغلِقة عليّ، والتي أردتُ لها، دوماً، أن تبقى كذلك: بعيدةً عنّي.
وبقدْر ما كنتُ أتوجّه بحديثي نحو سياسة الجريدة في النّشر، طارحاً مصير بعض كتاباتي، التي لم تعرفْ طريقَها بعدُ إلى النّشر، كما كان قد وعدني، بقدْر ما كان السياسيُّ فيه مُصرّاً على جرّي نحو ثقافة السّياسة. ربط كلامه بشبيبة حزبه، التي “نصحني”، مرّات كثيرةً أثناء حديثنا، بأنْ أفكر في تسجيل اسمي ضمن قواعدها، “وبعد ذلك يْكونْ خِيرْ”!..
فهمتُ من عبارة “يْكونْ خيرْ” التي ختم بها صديقي الأديب/ السّياسي حديثه معي أنّ التحاقي بصفوف حزبه العتيد أضحى شرطَ وُجوبٍ إن أنا أردتُ، فعلاً، أن أستمرّ في مُطارَدة حلمي: أن أضمَن أن تُنشَر كتاباتي على صفحات الجريدة الحزبية “الرّائدة”.. تسلّمتُ منه بطاقةَ دعوة خاصّة وشكرته وغادرتُ مكتبه، وأنا أتأسّف على زمن يُفرَض فيه على المُتأدّب أن يلبس عباءةَ السّياسة إنْ هو أراد أن يصنع له اسماً بين الأسماء “الوازنة” التي تستحوذ على صناعة الأدب، المُلطَّخ بإملاءات السّياسة ونواهيها.. “أفضّل أن أواصلَ درب مُطارَدة حلمي وحيداً، وليُوصلني إلى الجدار أو إلى حافة هاويةٍ على أن تُقيّدَني بشرط الانتظام في الصّفوف”..
قلتُ له دون كلمات، وأنا أودّعه بنظراتٍ تتوزّعها الشّفقة لحاله ولحالي؛ إذا كان شرطك هو أن ألتحقَ بالحزب لأحوز نياشين التّزكية والمُبارَكة فإنّني أفضّل العزفَ على أوتار أحزاني الفردية، ولْأظلّ صعلوكاً، منبوذاً، كما كنتُ دوماً؛ يكفيني أن يبقى صوتي حرّاً لا أقول إلا أشجاني..
وكما ودّعتُ -في ذلك اليوم البعيد- صديقي المُثقفَ الحزبيّ بنظرات تقول بدَل الكلمات، ودّعتُ “الطالبَ” اللّيبي واندسستُ في مقعد خلفيّ في قاع الحافلة..
