عبد الرزاق بوتمزار
ح. 58
على مَتن طائرة من زمنِ الحِصار..
عندما حطّتْ بنا الطائرة في مطار تونس -قرطاج بسلام، تعالت تصفيقات الرّكاب. لم أفهم سرّ هذا الاحتفال إلا عندما أسرّوا إليّ أن هذا نوعٌ من التّحية التي تُوجَّه للرّبان على حُسن قيادته. كانت “رُبّانةً” في الحقيقة؛ سيدةً تونسية تستحقّ كلّ تصفيقات الدّنيا على احترافيّتها ومهارتها.
أخبرني رشيد، لاحقاً، بأنّ الرّبانة وجدت صعوبة في الهبوط بطائرتها. كان الجو غائما إلى درجة أنها اضطرّت إلى القيام بثلاث لفّات حول ممرّ الهبوط قبل أن تحُطّ بسلام على أرض تونس -الخضراء. لا شكّ في أنّ من انتبهوا إلى ذلك العائق المُناخيّ الذي لاقته القائدةُ وواجهته بشجاعة وهدوء هُم أول مَن صفّقوا لها.
أمرٌ آخرُ تذكّرتُه من تلك المرحلة الأولى لرحلتنا هو أننا “نُحلّق على بعد 10 آلاف متر من سطح الأرض”.. غير أنّ هذه الجملة، التي سمعناها لحظاتٍ بعد صعودنا إلى الطائرة التّونسية، في الدّار البيضاء، سيقع عليها تعديل بيّن ونحن على متن طائرة ليبية وجدناها في انتظارنا لتُكمل بنا الرّحلة نحو عاصمة القذافي.. تناهى إلى مسامعنا صوت يُرحّب بنا على متن الخطوط الليبية ويتمنى لنا “رحلة موفقة”. وعند تطرّقه لمسألة الارتفاع عن سطح الأرض، أشار الصّوت الرّجاليّ الخشِن (عكسَ الصّوت النسائيّ الرّطب خلال الرّحلة الأولى) إلى أننا “نحلّق على بعد 5 آلاف متر عن الأرض”! بعد أن سمعتُ هذه الجملة أيقنتُ أنّي، لا محالةَ، مُلاقٍ ربّي عمّا قريب.. كانت الطائرة في حالة مُتقدّمة من الترهّل والتّضعضع. أمّا بعدما أخذ رشيد بيدي وأراني كيف أنّ “الإخوة” الليبيين استعانوا باللصاق السّائل من أجل سدّ بعض المَنافذ التي يمكن أن تتسرّب منها الرّيح من بين الفراغات قرب حواشي الزّجاج فلم يعد لديّ أدنى شكّ: أنا في ورطة حقيقية! (وْبيني وبينكومْ، واللهْ العظيمْ إيلا شْهّدتْ وقلتْ مْع راسي “هادي هيّ اللّخرة ليّ”!)..
أثار استغرابي أنّ رشيد، هذا الشّاب الغريب، رغم مُعاينته كلّ الأخطار المُحدقة بنا من كلّ مكان، كان الوحيدَ بيننا الذي لم يتوقف لحظة واحدة عن المُزاح وإرسال تعليقاته، التي يجدها لوحده مُضحِكة في ذلك الجو المشحون، بينما هي، بالنسبة إلينا (إلى بعضِنا على الأقلّ) تبعث على مزيد من الرّعب والخوف من المصير الذي يتربّص بنا في الأجواء على متن هذه الدابّة الحديدية المُسنّة المُترنّحة. عندما ألححتُ عليه في معرفة سرّ عدم انشغاله بالحالة المُزرية للطائرة، انحنى علَيّ وهمس في أذني، ضاحكاً:
-هذه هي المرّة السّادسة أو السّابعة على التوالي التي أشارك في هذه المُسابَقة؛ لا داعي لأن تقلق أبدا.
بثّ كلامُه بعضَ الطمأنينة في قلبي وشرعتُ، بدوري، في إطلاق تعليقات ضاحكة؛ لنُحوّل مُغامَرتنا إلى جلسة للتندّر على تلك الطائرة، التي ذكّرتني بـ”كِيرانْ الشّقوري”.. الفرق الوحيد بين هذه الحافلات وطائرة الجماهيرية هو أنّ الأولى تسير على الأرض بينما الثانية تُصرّ على خوض مُغامَرة التّحليق في الجو، رغم أنه تغيب عنها أدنى مُقومات وشروط التّحليق!
في إحدى اللحظات، ولدى عبورها فوق سلسلة جبلية في تراب الجزائر، شعرنا بالطائرة تهتزّ وكأنها ستنفجر من قوة الضّغط. أغمضتُ عينَيّ، أُردّد الشّهادتين وأنا أترقّب الأسوأ في أية لحظة. وبينما كانت تتناهى إلى سمعي تعليقاتُ مُرافقي الضّاحكةُ، استسلمتُ لقدَر أحمقَ لستُ أدري أية مُفاجَأة أخرى يُخبّئ لي..
