عبد الرزاق بوتمزار
ح. 51
في غياب البدائل..
في وضع سليم، وربّما في بلدان أخرى، كان المفروض أن تسعى الدّولة إلى استقطاب خِرّيجي جامعاتها وتُوفّر لهم مناصبَ شغلٍ يُساهمون من خلالها في تنمية البلاد ومُواصَلة السّي بها إلى الأمام. في مغربنا الحبيب، لم يكن بمقدور الوظيفة العمومية، المحكومة بإكراهاتها العديدة، أن تستوعب جميع تلك الأفواج المتعاقبة التي تلفظها جامعات البلادد خارجَ أسوارها في نهاية كلِّ موسمٍ، مُتأبّطين شهادة ما عادت تُسمِن أو.. تفتح باباً.
كما غالبيةِ الشّباب الحالمين بالعبور إلى الضّفة الأخرى، راسلْنا جامعات كثيرة، فرنسيةً بالخصوص. كانت هذه الجامعات لا تتأخّر في الرّد علينا وتزويدنا بجميع التّفاصيل؛ ومنها شروط قبول طالب للدّراسة المأمولة بين جُدران بناياتها، الفخمة والجميلة كما كنّا نتصورها في مخيّلاتنا أو كما تصلنا صورها في المطبوعات والمطويات الملساء التي كانت تصلنا بعد كلّ طلبٍ نكتبه إلى إحداها. كان أصعبُ شرط هو ذاك المتعلق بضرورة وُجود شخص (أو عائلة) فوق التراب الفرنسيّ بإمكانهـ(ا) توفير سكن للطالب هناك وقادر(ة) على “ضمانه” من خلال الالتزام بمدّه بقدْر “مُحترَم”من النّقود على رأس كلّ شهر طيلة فترة الدّراسة المُحتمَلة.
عند عقبة الضّمانة والسّكن، كان الكثيرون منّا يستسلمون ويتخلَّوْن عن سباق الهجرة إلى الشّمال. ومثلهم تخلّيت.بعض المحظوظين منا استطاعوا، في المقابل، عُبورَ المتوسّط، ليستقرّوا في أحد البلدان الأوربية، تحت مُسمّى متابعة الدّراسة، وإنْ كان السّوادُ الأعظم منهم لا يعتبرون الدّراسة أولوية؛ بل يتخذونها فقط قنطرةً للانتقال إلى الضّفة الشّمالية، حيث يستطيعون أنْ يْدبّرو على روسْهومْ ويصنعوا تواريخَهم الخاصّة.
حالف الحظ الصّديقين هشام وعبد الله وآخرين. شخصياً، توقفتْ مُحاوَلاتي، في كلَّ مرّة، عند حاجز غياب “كفيل” قادر على استقبالي فوق تراب الجمهورية. وبعد انتهاء مُحاوَلاتي إلى النتيجة ذاتها، توقّفتُ، تماماً، عن التّفكير في ذلك الاتجاه وبدأتُ أستسلم لقدَر البطالة المُتربّص..
ثمّ كان أن صادفتُ، ذات يوم، إعلاناً منشوراً على صفحات جريدة وطنية عن إجازة مُطبَّ أعلنت عنها جامعة محمد الخامس في الرّباط. كان منشور الإعلان عن المباراة يتحدّث عن إجازة مُطبَّقة في علوم وتقنيّات الكتاب. قلتُ لنفسي إنها فرصتي لتعميق مداركي في هذا التخصّص، خُصوصاً في ظلّ عشقي لكل ما له ارتباط بالكِتاب والكتابة. تقدّمتُ بطلب المُشارَكة في المباراة لأتوصّل بردٍّ بالموافَقة، بعد أيام.
اجتزْنا امتحاناً كتابيا في الصّباح، وبعد زوال اليوم نفسِه، آخَر، شفهيا؛ اقتصر على بعض الأسئلة حول الدّوافع التي جعلت كلّ واحد منا يختار هذه الشّعبة وعن المكان المُقرَّر من أجل الإقامة (كأننا مقبلون على الإقامة في ستوكهولم) إنْ هو نجح في الاختبار، خُصوصاً أنه في السّنتين (مدة الدّراسة) لن يحصل الطالب، هذه المرّة، على منحة ولا على مِحْنة!..
في نهاية المطاف، تمّ قبولي للالتحاق بالدّراسة في علوم وتقنيات الكتاب -تخصّص مساعد نشر. وفي الوقت الذي كنتُ أحزم حقيبتي للالتحاق بالرّباط لبدء فصل جديد في مشواري الدّراسي الطويل، كان عبد الله وهشام (وبقية المحظوظين، رغم قلّة السّعد في جيلنا) قد حزما حقائبهما لمُغادَرة البلاد في اتّجاه إحدى مدن فرنسا، بعد أن نجحا، كلٌّ بطريقته الخاصّة، في استيفاء الشّروط التي تؤهّلهما لركوب الموج نحو دول الشّمال.
