عبد الرزاق بوتمزار

ح. 45

أعْطِني درهما وخُذ.. عِجازة!

كان حصولُ طالب على نقطة جيّدة عن بحث التخرّج يعني، بنسبة كبيرة، أنّ حظوظه وافرة لأن ينجح ويتخرّج من الجامعة. ومن ثَمَّ، عندما علمتُ (قبل ظهور النّتائج الرّسمية بأيام) أنّ الأستاذ المُشرف قد منحني 14/20، أيقنتُ أنّي، لا محالة، حاصلٌ خلال تلك السّنة على العِجازة، شهادةِالتخرّج..

تخرّجْنا، بالمئات، من شعبة اللغة العربية وآدابها. وبالمئات تخرّجَ آخرون من الشّعَب الأخرى داخل الكلية. وتخرّج الآلافُ في مُختلَف شُعَب الجامعة، التقنية والعلمية وهلمّ تخصّصات. آلافٌ أخرى لفظتها جامعاتُ الوطن وألقتْ بهم إلى الشّارع.. أياماً بعد ظهور النّتائج النهائية، أُعلِن في الجامعة عن بدء مرحلة سحب الشّهادة الجامعية لاليصّانصْ. ويحضُرني باستمرار مشهـدٌ من مسلسل “ندَم” (جزيرة البركان) الذي عُرِض في فترة قريبة من السّنة التي حصلنا فيها على العِجازة..

يروي المسلسل قصّة حسن، الذي يزوره عجوز يطلب منه الذهاب إلى جزيرة البركان ليجلب له فانوساً ويأخذ بقيةَ الكنز؛ إلا أنّ حسن يطمع في الفانوس ويرفض إعطاءه للعجوز، فيفقد بصره ويندم على حبّه المال. وقد أجاد الفنان الذي أدّى الدور، على الخصوص، في ترديد لازمة أثيرة يقول فيها “اصفعْني وخذ ديناراً!”.. وهي اللازمة التي ترسّختْ في ذهننا أكثرَ ونحنُ نتسلم شهاداتنا الجامعية مقابلَ دينار..

لستُ أدري لماذا ما زلتُ أتذكر ذلك اليوم بتفاصيله؟ كان يوماً قائظاً من صيف مُرّاكش، الذي لا داعيَّ لوصف حرارته! كان أحدُ المتعاونين مَن يُشرف على عملية توزيع الدّبلومات. وجدناه وحيداً داخل إحدى حجرات الحرم الجامعيّ. عندما حان دوري وتقدّمتُ منه طالبني “مُوزّع الإجازات” بدرهم مقابل صفعِه.. عفواً، مقابل تسلُّم الإجازة! ذُهِلتُ للطلب؛ إذ لم أكن أعرف أنّنا مُطالَبون بدفع الدّرهم قبل تحوّز الإجازة.
بعد وقوفنا على حقيقة الأمر، ضحكنا كثيراً وتبادلنا التعليقات والتلميحات بخصوص ذلك الدّرهم الذي دفعْنا. وجدنا أنه كان يُلخّص، ربّما، القيمةَ الحقيقية للوثيقة التي يتسلمها الناجحون في مشوارهم الدّراسي.

أذكر، أيضاً، أنّني ذهبتُ إلى الكلية في ذلك اليوم مُتأبّطا محفظةَ بُنّية رافقتني خلال مشواري الجامعيّ وظلتْ تلازمُني سنواتٍ طويلةً بعد ذلك. دسَسْتُ الإجازة بين أوراقي وأحكمتُ إغلاقَ المحفظة عليها. لم أكنْ أريد للوثيقة أن تتعرّض لأدنى خدش أو تمزّق طارئ. قصدتُ، رفقةَ بعض المُتوجين، أقربَ كشك واستخرج كل واحد منا نُسَخا كثيرة من شهادته، قبل أن نعيدها إلى مكانها بين أوراقنا، بكلّ الحرص اللازم، حتى تظلّ الإجازة على حالها الأصليّ، دون أن يلحقها إهمال من أيّ نوع.

لكنّ كلّ ذلك الحرص الذي أوليْناه لإجازاتنا لم يشفعْ لها، بعد ذلك، ويمنع عنها التعرّضَ لإهمال من نوع آخر.. إهمالٍ تَجسّدَ في الإهانة المُذلّة التي تعرّضتْ لها إجازاتنا، وإجازاتُ آخرين كثرٍ، وهي تقبع منسيةً، منبوذةً، في دولاب كل ّواحد منا، دون أن تكون -كما هو مُفترَض- جوازَ مرور إلى سوق الشّغل، المآل الطبيعي المُفترَض أن ينتقل إليه جميع مُجازي البلاد، لولا أنّنا.. في بلد لا تلقى فيه الشّهادات الجامعية -مع الأسف- ما تستحقّ من عناية وتشريف ولا تُعطى فيه الفرص -إلا لِماماً- لحامليها من أجل أن يُنهُوا مشاويرَهم الدّراسية في عمل يليق بهم وبمستواهم المعرفيّ؛ الذي ندِم كثيرُون من مُجازي البلد ودكاترته ومُهندسيه على أنهم أفنوا كلّ تلك السّنوات الطويلات من أجل بلوغه..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *