عبد الرزاق بوتمزار

ح. 42


اللّيلُ وَالخيلُ وَ.. مَاوْكلِي
!

 

وسط كلّ انشغالاتنا واهتماماًتنا، كانت السّهرات الليلية التي نقضيها في فضاءات المدينة لحظاتٍ ضروريةً نتنفّس فيها هواء نقياً وندُقّ من خلالها مساميرَ إضافيةً في نعش وقتنا، الذي كان ينصرم بلا كبيرِ جدوى..

الليليّون من جيلنا كُثر؛ وكانت لكلّ أماكنُ مختارة وهواياتٌ. بالنسبة إليّ كان المشيُ هواية ليليّةً مُستبدّة. وللَيلِ المدينة الحمراء طعمٌ خاصّ يستعصي على الوصف؛ أمّا حين يجد المرء شخصاً مثلَ ماوكلي يُشاطره الهواية نفسَها فإنه يصير للمقام مقالاتٌ لا تُعَدّ..

كنّا نضبط مواعدَ لقاءاتنا على ساعات مُتأخّرة من الليل. بعد أن يسكن معظم سكان المدينة إلى بيوتهم، نبدأ مسيرتَنا الليلية المعتادة، التي كانت غالباً ما تنتهي بنا في السّاحة العتيقة. كنتُ أسير إلى جانبه وقد انشغل ببعض هواياته، مُمارساً شغبه اللفظيّ والجسديّ، الذي لم يكن يعرف حدوداً، على مَن قد نصادفها في طريقنا، وقد أخذتني خيالاتي الجامحة إلى البعيد، رفقةَ شخصيات ومواقفَ مُتخيَّلة أجرِّب معها القفزَ عبر الأسوار العتيقة وأتسلّق نخلاتِ أكدالَ السّامقاتِ، التي تُطلّ من خلف تلك الأسوار، في لوحة رائعة يندُر أن تجد لها مثيلاً.

ماوكلي كان بالنسبة إلينا النموذجَ المُعَصْرَنَ والحيَّ لأسطورة حيّ بن يقظان! كان شخصاً مَدنيّاً في ظاهره، بدوياً في الأعماق، مُوغلاً في الفظاظة والخشونة؛ خشونة فاجأنا، ذات صباح، في رحاب الجامعة وهو يُعطي منها مثالاً صارخا على الشّخص الآخر الثاوي في دواخله، خلف مظهره الخارجيّ الأنيق.

“ماوكلي” كان لقباً خاصّا يُطلقه عليه المُقرَّبون فقط، وهذا ما لم تفهمْه طالبةٌ مسكينة وجدتْ نفسَها، في ذلك اليوم، في موقف ليس فيه ما يُمْكن أن تُحسَد عليه.. كان صاحبُنا مُحاطاً ببعض أصدقائه، يتجاذب معهم أطرافَ الحديث حول إفطار الصّباح، عندما دخلتِ المسكينة المقصفَ ووقعتْ عيناها عليه. نادتهُ، ضاحكةً: ماوكلي! وهي تنظر إلى زميلتَيْها، تُبادلهما الغمزات والإيحاءات؛ لكنْ يبدو أنّ مزاج صاحبنا كان يومَها عكِراً إلى أقصى درجة. حين سمع لقبَه، الذي لم يكن يعرفه إلا الخاصّة من أصدقائه، رفع عينيه صوب مصدر الصّوت ليقع بصره على طالبة يعرفها بالكاد؛ وفي الحال زأر في أعماقه الحيوانُ الجاثم خلف الهندام الجميل وتسريحة الشّعر المُتأنّقة. قام من مجلسه واتّجه نحو صاحبة الصّوت وهو يرسم على مُحيّاه ابتسامةً خادعة. عندما وقفت قبالتَه وهمّتْ بمواصلة مزاحها بمزيد من النعوت والتلميحات، بادرها بسؤال لم تتوقعْه:

-هل تعرفينني؟!

وقبل أن تتجاوز اضطرابَها وتجد جواباً لسؤاله بين كلماتها المُتلعثمة، وجّه لها ضربةً بمُقدّمة جبهته، ليُسقطها أرضاً وقد أغميّ عليها!

حدث ذلك بسرعة وبكيفية مُخالِفة لكلّ التوقعات، إلى درجةِ أنّ مُجالسيه لم ينتبهوا إلى ما يجري إلا وهُم يقفون عند رأس الشّابة التي غيّبتْها “رأسيتُه” العنيفة.

عندما أُخبِرتُ بذلك الحادث، لاحقاً، حمدتُ الله على أنّني لم أكنْ رفقته في ذلك الصّباح؛ فقد كان كثيراً ما يُجرّب حماقاته في إحدى ضحاياه ويتركني عالقاً في وحل جرائمه، العاطفية على الخصوص، التي كان يقترفها في حقّ طالباتٍ، بلا خبرة في الغالب، كنّ يفقدْن بوصلةَ العقل ويسمعنه بلغة القلب ليَستسلمن بسرعة أمام بلاغته اللفظية وخطاباتِه المعسولة، التي لم يكُنّ ينتبهْن إلى زيفها ومخالفتها الحقيقةَ إلا بعد فوات الأوان غالباً.

لسنواتٍ طويلة، ظلتْ حكايا ماوكلي وستظلّ، مواضيعَ لجلساتِنا؛ يكفي أن يُذكَر اسمه في أحد مجالسنا لتتقهقر جميعُ الأسماء والمواقف والأحداث إلى الوراء؛ لا شيءَ يعلو فوق ماوْكلي في ليلِ مُرّاكش والنّهار!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *