عبد الرزاق بوتمُزّار
ح. 28
منحة بطعم المحنة..
“المِنحة” من بين الأمور التي ترتبط بذهن أيّ طالب جامعيّ.. دراهمُ معدوداتٌ كان القيّمون على الشّأن التعليميّ في بلادنا يضحكون بها على ذقون الآلاف من الطلاب على امتداد جامعات الوطن.
بنهاية الثلاثة أشهر الأولى، لاح موسم الهجرة إلى مبنى خزينة الدّولة لاستخلاص منحة بحجم الهُزال وطعمِ المرارة. صفوفٌ مُمتدّة من الطلبة المُتطلعين إلى حفنة من الدّراهم. كان الطابور يتشكّل، في البدء، من عدد محدود ممّن أبْكَروا حتى يكونوا في المقدّمة. بمرور الدقائق، كانت الأمواج البشرية تتقاطر ويشتدّ اللغط والزّحام والتداف. حينها، كان بعض الطلبة يتطوّعون لتنظيم الصّفوف في طابورَيْن طويلين: واحدٍ للطالبات وآخرَ للطلبة. كان “النظام”، الذي يتطوّع بعضُ الطلبة لفرضه علينا، يقضي بأن يُمنَح كلّ واحد منا رقماً خاصّاً به وبأن ننتظم في صفّين متوازيّين وينتظرَ كلّ واحد منّا إلى أن يسمع اسمه ورقمَه المُسجّلَين، قبلاً، في لائحة طويلة.
مع تزايد أعداد الطلبة، يصبح الطابور المنتظِر طويلا، إلى أن ينتهيّ ما يُشبِه هيئة ثعبان عملاق، رأسُه عند الشّباك حيث تُوزَّع المِنَح، بينما يمتدّ ذيله ليصل إلى خارج أسوار الكلية، في انتظار الحصول على المِنْحة/ المِحْنة.
لم يكن مبلغ المنحة يكفي حتى لتبرير كلّ تلك السّاعات الطويلة التي نمضيها واقفين على أعتاب مبنى الخزينة لاستجداء صدَقة الدّولة؛ فعلى امتداد تلك السّاعات، تكون سياط الشّمس الحارقة قد فعلت فعلتَها برؤوسنا، لتتركنا في حالةِ دوخةٍ نحتار معها في ما سنفعله بهذه المحنة، كما كنّا نُسمّي -تشفّياً- منحتنا الهزيلة. ومن ثمّ، عندما يحين دور أحدنا ويتسلم مبلغ الـ665 درهما و10 فرنكات، يشمُت بنفسه ويلومها، في أحسن الحالات: “لم يكن المبلغ يستحق ّهذا التّهافت والتّزاحم وهدرَ الكرامة تحت سياط الشّمس وكلّ هذا الانتظار!”..
عدا وجبةٍ دسِمة مُشترَكة، تناولتُها رفقةَ من تَبقوا من عناصر العصابة في السّاحة العتيقة ونحن في طريقنا إلى منازلنا وسروالِ “دْجينْ” اقتنيتُهه من إحدى القيساريات المُحيطة بجامع الفنا، لا أذكر أنّ مبلغَ منحتي الجامعية الأولى نفعني في شيء آخر. بيد أنّ موقف عبد الإله وتصرّفه في منحته الأولى خلال ذلك الموسم الجامعيّ البعيد كان الأغربَ وظلّ راسخاً في ذاكرة كلّ واحد منا.
بعد أن قبض كلّ واحد منا مبلغ المنحة، قصدْنا ساحة جامعْ لفنا. ونحن هناك، سار عبد الإله في اتّجاه مُعين، يبدو أنه كان قد حدّدَه جيدا من قبلُ. دلف إلى أحد متاجر بيع الأحذية الرّياضية. تناوَلَ زوجاً منها وقاسَه. وعندما وجد المقاسَ الذي يُناسبه، تَخلّصَ من حذائه القديم وانتعل زوج الحذاء الجديد. أخرج مبلغ المنحة (665 درهماً) من جيبه ودفعه إلى البائع. طلب من صاحب المحلّ كيساً بلاستيكيا؛ دسّ فيه الحذاءَ القديم وغادر المتجرَ، ونحن من خلفه لا نفقَه شيئاً مما يجري.
أفهمَنا، مُقهقهاً كما عادته، أنه كان قد اتفق مع البائع على أن يأتي لشراء الحذاء، الذي يساوي بالضّبط مجموعَ قيمة المنحة..
-أما هذه القطعة الفريدة فسأحاول الاحتفاظ بها ما أمكن تذكارا خاصّا عن ذكرى محنتي الجامعية الأولى.
قالها ضاجّا بضحكته، وهو يُشهِر في وجوهنا الـ10 سنتيمات المُتبقية في جيبه من مبلغ “المِحن”.
