عبد الرزاق بوتمزار

يوميات غير مرئية من مسلسل الضّياع

 

باستثناء مُحاضَرات معدودة ضبطتُ تواريخَها وداومتُ على حضورها، وزّعتُ ساعات الباقي بين خزانة الكلية ومُدرَّج الإمام مالك في الكلية المقابلة، حيث كان جواد وعبد الصّمد(2) يتابعان دراسة “علوم السّياسة”.

في معظم الأيام، كنتُ أصل الكلية في حدود السّاعة العاشرة؛ أطلب رواية من خزانة الكلية وأختار لي مجلساً في إحدى زوايا المكان. إذا أعجبتني فصولُ الرّواية واستأنستُ بشخصياتها وفضاءاتها وما يجري داخلها من أحداثٍ ووقائعَ، انعدمت الصّلةُ بيني وبين الواقع في الحال! ساعتان أو أكثر أمضيهما مُبحِراً بين دفّتَي الرّواية، قاطعاً جميعَ صلاتي بالعالم من حولي. وفي الوقت الذي يكون زملائي يتسابقون على احتلال الصّفوف الأمامية داخل المدرّجات من أجل الاستماع إلى المُحاضَرات وتدوين الملحوظات ورؤوس الأقلام، من جهة، وتسجيل الحضور في ذاكرة الأستاذ المُحاضر، من جهة ثانية، خُصوصاً إذا كانت مُحاضَراته تندرج ضمن الموادّ الشّفهية، بُغيةَ إثبات مدى مواظبتهم للأستاذ وترسيخ ملامح وجوههم في مُخيّلته.. في تلك الأثناء، كنتُ، رفقة آخرين معي كثرٍ، أطارد تفاصيلَ حكاياتٍ وشخصيات ورقية.

عند الثانية عشرة، يشهد فضاء الخزانة حركة مُتزايدة لطلبة وطالبات تخلّصوا، لِلتو، من دوخة مُدرَّج أو حُجرة؛منهم مَن يأتون للبحث عن صديق أو رفيقة، ومنهم من تأتون بناءً على موعد مُسبَق مع صاحبة أو عشيق، ومنهم من يأتون بحثاً عن أخ أو زميل؛ ثمّ منهم من يأتون فقط لأنّ أرجُلَهم قادتهم إلى المكان دون تخطيط قبْليّ. تتعالى الأصوات وتتداخل. يصبح من المُستحيل مواصلة المطالعة.. ..

أنتهز الفرصة وأطلب من أحدهم أو إحداهنّ إمدادي بنصّ المُحاضَرة التي فاتتني للتو؛ حتى أنَسخَها في أحد دفاتري، لأجد ما أطالعه حين تقترب فترة الاستعدادات ليوم يُعَزّ فيه المرء أو يُهان.

في فترة ما بعد الظهر، كنتُ أتحوّل إلى آلة حقيقية لنسخ المُحاضَرات. أُخرِج دفتري وأشرع في نقل ما فاتني، في الوقت الذي يكون أقراني من الطلبة المُجِدّين يستمعون إلى مُحاضَرة أخرى، سأضطرّ إلى نسخها بالطريقة نفسِها في وقت لاحق.

على هذه الوتيرة سارت أيامي داخل حرم الجامعة، خُصوصاً بعد أن اشترى لي شقيقي درّاجة هوائية أضحتْ تحت تصرّفي وسيلةَ نقلٍ أستغلها بعد العودة من الجامعة للالتحاق بالأصدقاء في بيت جواد، في “الضّفة”، حيث اعتدْنا على أن نجتمع لنلعب الورق ونمضي قسطاً وافراً من مساءات تلك التسعينيات الجميلة في زمن ضائع.

على إيقاع موسيقى شعبية صاخبة أو غربية هادئة، حسب الاختيار وحالة العقول، كنّا نتحدّث عن الدّراسة والفتيات وفريقنا الكروي المُفضّل، ونحن نُدوِّن يومياتٍ غيرَ مرئية من مسلسل ضياعنا، الذي كان في أيامه الأولى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *