في مشهد أقرب إلى اللقطات السينمائية، قاطع وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، لقاءً تلفزيونيًا كان يجريه الرئيس دونالد ترامب، أمس الأربعاء 8 أكتوبر، واقترب منه ليهمس بأن الاتفاق بين إسرائيل وحركة حمـ.ـاس بات وشيكًا. بعد لحظات، كتب ترامب على منصته “تروث سوشال” عبارة مقتبسة من الإنجيل: “طوبى لصانعي السلام”، معلنًا عن اتفاقٍ طال انتظاره.

لكن خلف هذا الإعلان المفاجئ، تخفي الكواليس أسرارًا كثيرة عن الطريقة التي نجح بها ترامب في فرض اتفاق غـ.ـزة، وسط تشابك المصالح وضجيج الحـ.ـرب وتناقض المواقف داخل المنطقة وخارجها.

ضغوط ناعمة على نتنياهو

منذ لقائه برئيس الوزراء الإسـ.ـرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض نهاية سبتمبر المنصرم، بدا ترامب حليفًا صلبًا لتل أبيب، لكنه في الواقع كان يدير عملية ضغط معقدة.

ففي الوقت الذي أعلن عن دعمه الكامل لإسـ.ـرائيل إن رفضت حمـ.ـاس خطته، كان يمارس من وراء الأبواب المغلقة ضغوطًا مضادة على نتنياهو لحمله على القبول بتسوية تتضمن وقف إطلاق النار، وتفتح الباب أمام الحديث عن دولة فلسطـ.ـينية، وهي نقطة ظلّ نتنياهو يعتبرها غير قابلة للنقاش.

كان ترامب يدرك أن تحقيق اختراق سياسي يتطلب قدرًا من الحزم مع الحليف نفسه، لا مجرد دعم غير مشروط. ومع تصاعد التوتر في المنطقة، أدرك رئيس الوزراء الإسـ.ـرائيلي أنه لن يجد مخرجًا دبلوماسيًا أكثر أمانًا من القبول بخطة البيت الأبيض.

الرهان على الموقف العربي

في لحظة حاسمة، استثمر ترامب وحدة الموقف العربي بعد الجدل الذي أثارته تصريحات إسـ.ـرائيلية ضد قطر، فحوّل الأزمة إلى رافعة سياسية لصالحه.

فقد ضغط على نتنياهو للاعتذار رسميًا للدوحة، ثم أصدر مرسومًا يضمن أمنها بوصفها حليفًا استراتيجيًا لواشنطن. كانت تلك الخطوة إشارة إلى أن الولايات المتحدة الجديدة، في عهد ترامب، لا تساير أحدًا دون مقابل، بل تفرض معادلة تقوم على المنفعة المتبادلة وإعادة التوازن في العلاقات الإقليمية.

من خلال هذا التكتيك، استطاع ترامب أن يجمع حوله شبكة دعم عربي نادرة الحدوث، ممتدّة من الدوحة والقاهرة إلى الرياض وعمان، وهو ما ساعد على تمرير خطته في لحظة كان يُعتقد أنها مستحيلة.

تهديدات محسوبة لحـ.ـماس

أما في اتجاه غـ.ـزة، فقد لجأ ترامب إلى أسلوب العصا والجزرة. وجّه إنذارًا مباشرًا إلى حركة حمـ.ـاس بمهلة محددة للقبول بالخطة، متوعدًا بفتح “أبواب الجحيم” إن رفضت، لكنه في الوقت نفسه أبدى استعدادًا لتضمين الاتفاق بنودًا إنسانية واضحة: رفع تدريجي للحصار، وضمان إعادة الإعمار، وتبادل الأسرى والرهائن.

جاء رد حمـ.ـاس واقعيًا ومدروسًا، إذ ركزت على ضمان الإفراج عن الأسرى الفلسـ.ـطينيين مقابل إطلاق الرهائن الإسـ.ـرائيليين، دون أن تُغلق الباب أمام مسار سياسي أطول مدى.

وبمجرد أن حصل ترامب على الضوء الأخضر، أعلن عبر رسالة مصوّرة قرب عودة الرهائـ.ـن، قائلاً: “أظن أنهم سيعودون الاثنين”، في مشهد بدا وكأنه تتويج لحملة ضغط هادئة ومستمرة قادها بنفسه.

عودة ترامب إلى واجهة التاريخ

أسرار اتفاق غـ.ـزة لا تتعلق فقط بالمفاوضات، بل أيضًا بحسابات ترامب الانتخابية. فالرئيس الأميركي، الذي خاض حملته على وعدٍ بإعادة “هيبة أميركا”، أراد إنجازًا دوليًا يعيد تذكير الأميركيين بصورة الزعيم القادر على صناعة الأحداث لا انتظارها.

لقد نجح في ما فشل فيه أسلافه: دفع خصمين لدودين إلى الجلوس، ولو ضمنيًا، على طاولة تفاهم. وفي الوقت الذي كانت الأنظار معلّقة بالشرق الأوسط، كان ترامب يخطّ سرديته الجديدة: “أنا الرجل الذي أوقف حـ.ـرب غـ.ـزة”.

وبينما تتجه المنطقة إلى اختبار أولى مراحل الاتفاق، تبقى أسرار انتزاعه دليلاً على براعة ترامب في خلط الأوراق وإعادة صياغة المشهد الدولي، حيث السياسة عنده ليست فن الممكن فقط، بل فن المفاجأة أيضًا.

إعداد: “Le12.ma”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *